الاثنين، 19 مايو 2025

جثة لذيذة

 

"جثة لذيذة" – حين يصبح الإنسان وجبة فاخرة!




رواية "جثة لذيذة" للكاتبة الأرجنتينية أجوستينا باثتريكا ليست مجرد قصة خيالية، بل صدمة أدبية تعري الإنسان وتكشف وحشيته المغلّفة بالحداثة. تدور أحداث الرواية في عالم ديستوبي، حيث ضرب فيروس غامض الحيوانات وجعل لحومها سامة، مما أدى بالبشر إلى تبنّي حل مروّع: تربية البشر كحيوانات للاستهلاك الغذائي.


بناء عالم صادم... لكنه ممكن؟


في هذا العالم، يتم "تصنيع البشر" في مزارع خاصة، وتتم معاملتهم كقطعان لا تمتلك مشاعر أو قيمة إنسانية. وتتابع الرواية شخصية "البطل"، وهو موظف في شركة لتجهيز لحوم البشر. يعيش في صراع داخلي بين التزامه المهني في نظام متوحش، وبين مشاعره الأخلاقية المتضاربة، خاصة بعد أن يُهدى إليه "أنثى بشرية" حيّة كمكافأة.


بذكاء سردي لافت، لا تقدم باثتريكا الكثير من التفاصيل عن الفيروس أو التغيرات السياسية، بل تركز على العادي واليومي داخل هذا الجحيم، ما يجعل الرعب أكثر واقعية وقربًا للقارئ.


الرمز والواقع... لحم البشر كمرآة لمجتمعنا


"جثة لذيذة" ليست عن أكل لحوم البشر فقط. الرواية تعكس بوضوح نظام الاستهلاك الرأسمالي، والتمييز الطبقي، والتجرد من الإنسانية. إنها تساؤل صادم: إلى أي مدى يمكن للبشر أن يبرروا العنف والاستعباد إذا غُلّف بالقانون والعُرف؟


تُظهر الرواية كيف يمكن تحويل أي جريمة إلى "عمل طبيعي" إذا قبله المجتمع، ووضعت له نظامًا واضحًا. طريقة وصف "القطع الممتازة"، و"طرق الذبح"، و"مزارع التربية" تنقل القارئ من حافة الصدمة إلى حافة الإدراك: أليست هذه نفس المعاملة التي نُجريها على الحيوانات يوميًا؟


أسلوب أدبي بارد... لكنه يخترقك


تكتب باثتريكا بأسلوب جاف، تقني، شبه خالٍ من العاطفة — وهذا متعمّد. فاللغة هنا تُحاكي قسوة الواقع الذي تصفه. لا يوجد انفجار عاطفي ولا خطاب أخلاقي مباشر، بل مجرد عرض صادم وواقعي لما قد يحدث حين تنهار الأخلاق الجماعية.


الأسلوب يخلق مسافة بين القارئ والنص، لكنه في الوقت نفسه يجبر القارئ على ملء هذه الفجوة بالأسئلة والتفكير العميق.


في النهاية: هل نحن فعلاً مختلفون؟


رواية "جثة لذيذة" ليست للقلوب الضعيفة، لكنها ضرورة لكل من يهتم بأسئلة الأخلاق، والسيطرة، والعنف المؤسسي. هي تحذير مرعب من مستقبل قد لا يكون خياليًا بالكامل، ودعوة لإعادة التفكير في علاقتنا بالآخر — سواء كان حيوانًا أو إنسانًا.


في زمن تُغلف فيه الفظائع بالحداثة، تأتي باثتريكا لتقول لنا بوضوح: الوحش الحقيقي ليس في المزرعة... بل في قلب المجتمع.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق